فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2)}
التفسير:
«روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت على جبل حراء فنوديت على محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويسأوي فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماء باردا، ونزل جبرائيل وقال: {يا أيها المدثر}» وروى الزهري مثله، وقريب منه ما قيل: إنه تحنث في غار حراء فقيل له {يا أيها المدثر} المغطى بدثار اشتغل بدعوة الخلق، فالسورة على هذا من أوائل ما نزول.
وقيل: سمع من قريش ما كرهه كما يجيء حكايته عن الوليد فاغتنم فتغطى بثوبه مفكرا فأمر أن لا تدع إنذارهم وتصبر على أذاهم. وقيل: أراد يا أيها المدثر بدثار النبوة مثل لباس التقوى. والدثار ما فوق الشعار، والشعار الوب الذي يلي الجسد قال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار شعار والنار دثار» قوله: {قم} أي من مضجعك أو قيام عزم وتصمم. وقوله: {فأنذر} متروك المفعول لئلا يختص بأحد نحو (فلان يعطي) أي فافعل الإنذار وأوجده وقيل: أراد فحذر قومك من عذاب الله إن لم تؤمنوا. قوله: {وربك فكبر} أي عظم ربك مما يقول عبدة الأوثان، أو من أن يأمرك بالإنذار من غير حكمة وصلاح عام. وعن مقاتل: وهو نفس التكبير. يروى أنه لما نزل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وقد يحمل على تكبير الصلوات ولا يبعد أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر صلوات مخصوصة والفاآت في {فكبر} وما يتلوها لتلازم ما قبلها وما بعدها كأنه قيل: مهما كان من شيء فلا تدع تكبيره. وقوله: {وثيابك فطهر} في تفسيره وجوه أربعة: أحدها أن يترك كل من لفظي الثياب والتطهير على ظاهره. فعن الشافعي أن المراد الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس والأقذار ولا ريب أن هذا هو الأصل إلا أن في غير حال الصلاة أيضا لا يحل إستعمال النجس أولا يحسن فقبح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا. وروي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلى شاة فرجع إلى بيته حزينا وتدثر ثيابه فقيل {يا أيها المدثر قم فأنذر} ولا تمنعك تلك الناهية عن الإنذار. {وربك فكبر} عن أن لا ينتقم منهم {وثيابك فطهر} عن تلك النجاسات والقاذورات الثاني: الثياب حقيقة والتطهير كناية عن التقصير لان العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم. وقال علي عليه السلام: قصر ثيابك فإنه أتقى وأبقى وأنقى. وقيل: تطهيرها أن لا تكون مغصوبة ولا محرمة بل تكون مكتبسة من وجه حلال. الثالث: عكسه فعبر عن الجسد بالثياب لاشتماله على النفس. وكان العرب لا يتنظفون وقت الإستنجاء فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتنظيف. الرابع: أن يكون كل من اللفظين مجازا قال القفال: إنهم لما لقبوه بالساحر شق عليه ذلك فرجع إلى بيته وتدثر فكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر فأمر بحسن الخلق وتهذيب الأخلاق أي طهر قلبك عن الصفات الذميمة كقطع الرحم وعزم الإنتقام والسآمة من الدعوة إلى دين الله لأجل أذى القوم.
وهذا بعد منا سبته لخطابه بالمدثر مجاز مستعمل يقال: فلان طاهر الجيب نقي الذيل إذا كان بريئا من المثالب. ويقال: المجد في ثوبيه والكرم في برديه وذلك أن الثواب كالشيء الملازم للإنسان فجعل طهارته كطهارته، ولأن الغالب أن من طهر باطنه طهر ظاهرة. وقيل: هو أمر بالإحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة. وهذا تأويل من حمل قوله: {ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 2] على آثام الجاهلية: وقيل: معناه نساءك طهرهن. وقد يكنى عن النساء بالثياب هن لباس لكم. قوله: {والرجز فاهجر} هو بالكسر والضم العذاب والمراد اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها أي أثبت على هجره مثل أهدنا، وهذا يؤكد تأويل من حمل قوله: {وثيابك فطهر} على تحسين الأخلاق والإجتناب عن المعاصي {ولا تمنن تستكثر} لا تعط مستكثرا رائيا لما أعطيته كثيرا بل يجب أن تستحقرها وترى أن للأخذ حرمة عليك بقبول ذلك الإنعام، وهذا نهاية الكرم على أن الإستكثار ينبي على المنة وهي مبطلة للعمل كما قال: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 267] فقوله: {تستكثر} مرفوع والجملة في موضع الحال منصوبا، ويجوز أن يكون الأصل لأن تستكثر فحذف اللام ثم (أن) وأبطل عملها كما روي:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

بالرفع. واختار أبو علي الفارسي الوجه الأول إلا أنه قال: تأويله لا تمنن مقدرا الإستكثار كما في قول القائل: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا. وأقول: هذا التأويل مما لا حاجة إليه لأن طلب الكثرة مقرون بالإعطاء بخلاف الصيد غدا. وذهب جم غفير من المفسرين إلى أنه نهى عن الاستقراض وهو أن يهب شيئا طامعا في أن يأخذ أكثر منه فيكون نهى تنزيه لأنه جاء في الحديث: «المستغزر يثاب من هبته» ويجوز أن يكون نهي تحريم خاصا برسول الله لأن منصبه يجل عن طلب الدنيا خصوصا بهذا الوجه، ومنهم من حمله على الرياء فيكون نهي تحريم للكل والمن معنى. وقال القفال: يحتمل أن يكون المقصود النهي عن طلب العوض زائدا أو مسأويا أو ناقصا. أما الزائدة فطاهر. وأما المسأوي والناقص فلأن طالب العوض كاره أن ينتقص المال بسبب العطاء فكأنه يطلب الكثرة. ويجوز أن يقال: إنما حسنت هذه الإستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء فسمي طلب الثواب إستكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله، وكما أن الأغلب أن المرأة ذات الولد إنما تتزوج للحاجة إلى من يربى ولدها فسمي الولد ربيبا، ثم اتسع ولد المرأة ربيبا. وإن كان كبيرا خارجا عن حد التربية أمر صلى الله عليه وسلم أن يكون عطاؤه خاليا عن انتظار العوض والتفات النفس إليه كيف كان حتى يقع خالصا لوجه الله ويكون صابرا محتسبا.
وعن الحسن وغيره أنه لما أمره الله بإنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجران الرجز قال: {ولا تمنن} على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله بل اصبر على ذلك كله ويؤكده قوله بعد ذلك {ولربك فاصبر} أي استعمل الصبر في مظانه خالصا لوجه ربك وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر لذلك بأمر الله.
وقيل: لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر أي لتأخذ منهم على ذلك أجرا فيكثر مالك. وقال مجاهد: لا تمنن أي لا تضعف من قولك (حبل من) أي ضعيف ومنه (منّه السير) أي أضعفه. والمعنى لا تضعف أن تستكثر من هذه الأوامر ووجه الرفع ما مر في قوله (أحضر الوغى) قوله: {فإذا نقر} الفاء للتسبيب كأنه قال: اصبر على التكاليف المعدودة وعلى أذى المشركين فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك والفاء في {فذلك} للجزاء. وانتصب {إذا} بما دل عليه الجزاء لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين (فاعول) من النقر كالهاضوم من الهضم، يشبه أن يكون البناء للآلة لأن الهاضوم ما به يهضم. فالناقور ما ينقر به وهو الصور باتفاق المفسرين، فكأنه آلة النقر أي النفخ وذلك أن النفخ سبب حدوث الصوت في المزامير كما أن النقر سبب الحدوث في الآلات ذوات الأوتار. قال الجوهري في الصحاح {فإذا نقر في الناقور} أي نفخ في الصور. وقد يلوح من كلام الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير أن النقر غير النفخ. وهكذا من كلام الحليمي في كتاب (المنهاج) وذلك أنه قال: جاء في الأخبار أن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلها فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر و(النفخ) لتكون الصيحة أهول وأعظم. وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه. واقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها ويظهر من فحوى كلامه أنه حمل هذا النقر على أنه مقرون بالنفخة الأولى بعد أن أثبت المغايرة.
ومن المفسرين من ذهب إلى أن النفخة الثانية أهول لأنه سبحانه أخبر أن ذلك الوقت شديد على الكافرين، والإصعاق ليس بشديد عليهم ولذلك يقولون {يا ليتها كانت القاضية} [الحاقة: 27] أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى. قلت: لا دليل في هذا لأن الإصعاق شديد عليهم لا محالة، ثم إذا جاءت النفخة الثانية رأوا من الأهوال ما تمنوا حالة الإصعاق. أو نقول: مبدأ الشدة من حين الإصعاق ثم يصير الأمر بعد ذلك أشد لأنهم يناقشون في الحساب وتسود وجوههم وتتكلم جوارحهم إلى غير ذلك من القبائح والأهوال، فلذلك يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر ويتم الكلام بتقدير مضاف أي {فذلك} النقر {يومئذ} نقر {يوم عسير} فالعامل في {يومئذ} هو النقر.
ويجوز أن يكون إشارة إلى اليوم و{يومئذ} مبني على الفتح ولكنه مرفوع المحل بدلا منه كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير وقوله: {غير يسير} تأكيد كقولك (أنا محب لك غير مبغض) وفائدته أن يعلم أن عسرة على الكافرين ولا يرجى زواله كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا، أو يراد أنه عسير على الكل لأن أكثر الأنبياء يقول: نفسي نفسي والولدان يشيبون إلا أن الكافر يختص بمزيد العسر بحيث يكون اليسر منفيا عنه رأسا ويعلم هذا من تقديم الظرف. روى المفسرون أن الوليد بن المغيرة الخزومي وجماعة من صناديد قريش كأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاصي بن وائل اجتمعوا وقالوا: إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد فكل منا يجيب بجواب آخر؛ فواحد يقول مجنون. وآخر يقول: كاهن وآخر يقول: شاعر فتستدل العرب باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فهلموا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد. فقال واحد: إنه شاعر فقال الوليد: سمعن كلام عبيد بن الأبرص وكلام أمية بن أبي الصلت وكلامه ما يشبه كلامهما. فقال الآخر. وهو كاهن. فقال الوليد: إن الكاهن يصدق تارة ويكذب أخرى ومحمد ما كذب قط. فقال آخر: إنه مجنون فقال الوليد: المجنون يخيف الناس وما يخيف محمد أحدا قط فقام الوليد وانصرف إلى بيته فقال الناس: صبأ الوليد فدخل أبو جهل وقال: مالك يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئا زعموا أنك احتجت وصبأت فقال الوليد: مالي إليه حاجة ولكني فكرت في أمر محمد فقلت: إنه ساحر لأنه يفرق بين الرجل ووالده ومواليه وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل. فأجمعوا على تلقيب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب وفرحوا بذلك وعجبوا عن كياسته وفكره ونظره ثم إنهم خرجوا ونادوا بمكة إن محمدا لساحر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته حزينا فتدثر بقطيفة وأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر قم فأنذر} الآية.
ثم إنه هدد الوليد وسلى نبيه بقوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} وهو كقوله في المزمل {فذرني والمكذبين} [الآية: 11] وقوله: {وحيدا} من غير شكة أحد أو من (مفعول) خلقت المحذوف أي خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد. ويجوز أن يكون نصبا على الذم والمراد أذم وحيدا بناء على أن الوليد كان يلقب بالوحيد فإن كان علما فلا إشكال، وإن كان صفة على ما روى أنه كان يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي نظير، وهو إستهزاء به وتهكم بحسب ظنه واعتقاده نحو{ذق أنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49] فيفيد أنه ليس وحيدا في العلو والشرف ولكنه وحيد في الخبث والدناءة والكفر. وقيل: إن {وحيدا} مفعول ثان قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له فيكون طعنا في نسبه كما في قوله: {عتل بعد ذلك زنيم} [ن: 13] وفي المال الممدود وجوه أظهرها أنه المال الذي يكون له مدد يأتي منه الخير بعد الخير على الدوام كالزرع والضرع وأنواع التجارات، ولهذا فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر بشهر. وقال ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال. وعلى هذا يكون المال الممدود إما بمعنى المدد كما قلنا، أو بمعنى امتداد مكانه. وقريب منه ما روى مقاتل أنه كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا ولا شتاء. ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال: ألف دينار أو أربعة آلاف أو تسعة آلاف أو ألف ألف فهذه تحكمات لا أصل لها إلا أن تكون رواية صحيحة أن مال الوليد على أحد هذه الأعداد وحينئذ يمكن أن يقال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وفي قوله: {وبنين شهودا} وجوه: أحدها أنهم حضور معه بمكة لا يفارقونه لاستغنائهم عن الكسب وطلب المعاش فهو مستأنس بهم يغر محزون بفراقهم. الثاني أنهم رجال يشهدون معهم بمكة في المجامع والمحافل. الثالث أنهم من أهل الشهادات في الحكومات يسمع قولهم ويعتد بهم. وأما عددهم فعن مجاهد: عشرة وقيل: ثلاثة عشر وقيل: سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس. قال جار الله: أسلم منهم ثلاثة: خالد بن الوليد وخالد وعمارة. قلت: إنه أبقى الوليد بن الوليد في حوزة الكفرة وهو مسلم حسن الإسلام مشهور الصحبة كما ذكره رشيد الدين الوطواط في رسالته، وصاحب سر السلف سيد الحفاظ أبو القاسم فيه أن الوليد بن الوليد ابن المغيرة كان من المستضعفين حبسه المشركون فدعا النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته: اللهم أنج الوليد ابن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام. ثم قدم المدينة فتوفى بها فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه وكانت أم سلمة تندبه.
أبكى الوليد بن الوليد بن المغيرة ** أبكى الوليد بن الوليد أخا العشيرة

وقال ابن الأثير في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤلف كتاب (جامع الأصول): هو الوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي أخو خالد بن الوليد، أسر يوم بدر كافرا وفداه أخواه خالد وهشام، فلما فدى أسلم فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال: كرهت أن تظنوا أني أسلمت جزعا من الإسار فحبسوه بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت مع من يدعو له من المستضعفين بمكة ثم أفلت من أيديهم ولحق بالمدينة.
والعجب من جار أنه ذكر في سورة الزمر في تفسيره قوله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} أن الوليد أسلم وأسلم معه نفر هاجروا ثم إنه أبقاه هاهنا في بقية الكفار. قوله: {ومهدت له تمهيدا} أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا حتى جعلوه دعاء الخير فيما بينهم قائلين (أدام الله تأييدك وتمهيدك) أي بسطتك وتصرفك في الأمور. وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم ولذلك لقب بالوحيد وريحانة قريش. ومعنى (ثم) في قوله: {ثم يطمع أن أزيد} استبعاد وتعجب من طمعه وحرصه على الزيادة بعد أن لم يعرف حق بعض ما أوتي. قال الكلبي ومقاتل: ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي. وقيل: إن تلك الزيادة في الآخرة كأن يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي. ثم قال الله تعالى: {كلا} حتى افقتر ومات فقيرا.
ثم علل الرجع على وجه الاستئناف كأن قائلا قال: لم لا يزداد؟ فقال: لأنه {كان لآياتنا عنيدا} معاندا والكافر لا يستحق المزيد ولاسيما إذا كان كفره أفحش أنواعه وهو كفر العناد، ومما يدل على أن كفره كفر عناد بعدما حكينا عنه ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فرجع وقال لبني مخزوم: (والله لقد سمعت آنفا من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن. إن له لحلأوة وإن عليه لطلأوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى) ولا ريب أن من عرف هذا القدر ثم زعم أن القرآن سحر فإنه يكون معاندا، والعنيد هو الذي كان العناد خلقه وديدنه فلشدة عناده وصفه الله تعالى به. وتقديم الظرف يدل على أن عناده كان مختصا بآيات الله وإن كان تاركا للعناد في سائر الأمور. وفي جمع الآيات إشارة إلى أنه كان منكرا للتوحيد والنبوة والبعث وغير ذلك من دلائل الدين ومعجزاته ولهذا أوعده الله سبحانه أشد الوعيد قائلا {سأرهقه صعودا} أي سأصعده عقبة شاقة المصعد وفيه قولان: أحدهما الظاهر وهو ما روي عن النبي «الصعود جبل من نار يصعد فيه خمسين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» وعنه صلى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة من النار كلما وضع عليها يده ذابت فإذا رفعها عادة وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت» الثاني إنه مثل لما سيلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق كما مر في قوله: {يسلكه عذابا صعدا} [الجن: 17] ثم فسر كيفية عناده بقوله: {إنه فكر} ماذا يقول في القرآن {وقدر} في نفسه كلاما {فقتل كيف قدر} وهذا الكلام مما ينطق به العرب عند التعجب والإستعظام يقولون: قتله الله ما أشجعه. وقاتله ما أشعره، وأخزاه ما أظرفه. والمراد أنه قد بلغ المبلغ الذي حق له أن يحسد فيدعى عليه. والمعنى في الآية التعجب من قوة خاطره. أنه كيف استنبط هذه الشبهة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بحيث وافق غرض قريش كما حكينا وهي بالحقيقة ثناء على طريق الإستهزاء. ومعنى {ثم} الداخلة في تكرير الدعاء الدلالة على أن التعجب في الكرة الثانية أبلغ من الأولى، أو هي حكاية لما كرره من قوله تعالى: {قتل كيف قدر} ويجوز أن يكون التقدير الأخير تقديرا للتقدير أي ينظر فيه بتمام الإحتياط فهذا ما يتعلق بأحوال قلبه. ثم وصفه بأحوال ظاهره قائلا {ثم نظر} في وجوه القوم {ثم عبس وبسر} قال الليث: عبس عبوسا إذا قطب ما بين عينينه فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح {واستكبر} عن الإيمان ويحتمل أن يقال: قدر ما يقوله ثم نظر فيه احتياطا والدعاء بينهما اعتراض، ثم قطب في وجه النبي ثم أدبر عن الحق واستكبر عنه. ومعنى (ثم) في هذه الأفعال سوى فعل الدعاء الثاني المهلة. والفاء في قوله تعالى: {فقال} للدلالة على أنه كما تولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، أو أن الكلمة لما خطرت بباله بعد التفكر لم يتمالك أن نطق بها من غير تراخ. وقوله: {يؤثر} من الأثر بالسكون الرواية كما مر أو من الإيثار أي هو مختار على جميع أنواع السحر. قوله: {إن هذا إلا قول البشر} جار مجرى التوكيد من الجملة الأولى ولهذا لم يتوسط العاطف بينهما. أراد بذلك أنه ملفوظ من كلام غيره. ومن تأمل في هاتين الجملتين عرف أنه حكاية كلام مفتخر غير خاف عليه وجوه الحيل ودفع الحق الصريح ولذلك جازاه الله بقوله: {سأصليه سقر} ولعله بدل من قوله: {سأرهقه صعودا} ثم قال: {وما أدراك ما سقر} والمراد التهويل: ثم بينه بقوله: {لا تبقي ولا تذر} قال بعضهم: معناهما واحد والتكرير للمبالغة. وقال آخرون: لابد من الفرق: فروى عطاء عن ابن عباس أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تترك إحراقهم وهكذا أبدا. وقيل: لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئا إلاّ أحرقته. وقيل: لا تبقى على شيء ولا تذر من قوتها شيئا إلا استعملته والتقدير هي لا تبقى بدليل قوله خبرا بعد خبر {لواحة} ويجوز أن يكون هذا خبرا لمبتدأ آخر.
قال أكثر المفسرين: هي من لاحه العطش ولوحه أي غيره وذلك أنها تسود البشرة وهي أعلى الجلود بإحراقها. واعتراض الحسن والأصم بأن وصفها بالتغيير لا يناسب بعد قوله: {لا تبقى ولا تذر} نعم لو عكس الترتيب لاتجه لأنها تغير البشرة أولا ثم تفنيها، فمعنى لواحة لماعة من لاح البرق ونحوه يلوح إذا لمع والبشر بمعنى الإنسان وذلك أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام.
ثم بين أن عدد الخزنة الموكلين عليها {تسعة عشر} فترك المميز فقيل صنفا. والأكثرون شخصا مالك وثمانية عشر أعينهم كالبرق وأنيابهم كالصياصي يجرون أشعارهم يخرج اللهب والنار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت الرأفة والرحمة منهم يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم. وذكر العلماء في تخصيص هذا العدد وجوها فقال المتشرعون: هذا مما لا يصل إليه عقول البشر كأعداد السموات والأرضين والكواكب وأيام السنة والشهور. وكأعداد الزكاة والكفارات والصلوات. وقيل: إن العدد على وجهين: قليل وهو من الواحد إلى التسعة، وكثير وهو من العشرة إلى ما لا نهاية، فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير. وقيل: إن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون، خمس منها تركت لأجل الصلوات الخمس والباقية لكل منها يعذب من يضيعها في غير حق الله. وقيل: إن أبواب جهنم سبعة، وله للفساق زبانية زبانية واحدة بسبب ترك العمل، ولكل من الأبواب الباقية ثلاثة أملاك لأن الكفار يعذبون لأجل أمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل. قال الحكيم: إن فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية هو بسبب استعماله القوى الحيوانية والطبيعية لا على وجهها. والقوى الحيوانية الشهوة والغضب. والحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة. والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، فلما كان منشأ الإفادة هذه القوى التسع عشر لا جرم كان عدد الزبانية كذلك. يروى أنه لما نزلت الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال المسلمون: ويحكم أتقاس الملائكة بالحدادين أي السجانين؟ وجرى هذا مثلا في كل شيئين لا يسوىّ بينهما وأنزل الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون ويرحمون فإن الجنسية مظنة الرأفة ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم من جنس الأمة ليكون بهم رؤفا رحيما. ولا استبعاد في كون الملائكة في النار غير معذبين بناء على القول بالفاعل المختار، ولعلهم غلبت عليهم النارية فصارت لهم طبعا كالحيوانات المائية. وقوله: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة} الآية. هو على مذهب أهل السنة ظاهر، وأما على أصول المعتزلة فقال الجبائي: المراد بالفتنة تشديد التعبد، استدلوا به على كمال قدرة الله تعالى وقال الكعبي: هي الإمتحان فيؤمن المؤمن بالمتشابه ويفوض حكمة التخصيص بهذا العدد إلى الخالق، والكافر يعترض عليه.
وقال: بعضهم: أراد ما وقعوا فيه من الكفر بسبب إنكارهم والتقدير إلا فتنة على الذين كفروا، وحاصله يرجع إلى ترك الألطاف. وأجيب عن هذه التأويلات بأن تنزيل المتشابهات لابد أن يكون له أثر في تقوية داعية الكفر وإلا كان إنزالها كلا إنزال. ومع هذا الترجيح لا يحصل الإيمان ألبتة وهو المعنى بالإضلال.
واعلم أن في الآية دلالة على أنه سبحانه جعل افتتان الكافر بعدد الزبانية سببا لأمور أربعة: أولها {ليستيقن} ثانيها {ويزداد} ثالثها {ولا يرتاب} رابعها {وليقول} وفيه إشكال. قال جار الله: ما جعل افتتانهم بالعدد سببا ولكنه وضع {فتنة} موضع {تسعة عشر} تعبيرا عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيها على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المأثر. وقال آخرون: تقديره وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن كما يقال: فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك. قالوا: والعاطف يذكر في هذا الموضع تارة ويحذف أخرى. وأما سبب إستيقان أهل الكتاب فهو أنهم قرؤا هذا العدد في كتابهم ولكنهم ما كانوا واثقين لتطرق التحريف إلى كتابهم. فلما سمعوا ذلك في القرآن تيقنوا بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم بما في كتابهم من غير سابقة دراسة وتعلم. ولأنه أخبر كفار قريش بهذا الأمر الغريب من غير مبالاة باستهزائهم وتكذيبهم فعرفوا أنه من قبيل الوحي وإلا لم يجترئ على التكلم به خوفا من السخرية. وأما زيادة إيمان المؤمنين فحمل على آثاره ولوازمه ونتائجه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم فمن باب التوكيد كأنه قيل: حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل بعده شك وريب. فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدمة من مقدمات الدليل فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض بحال من عداهم كأنه قيل: وليخالف حالهم حال المرتابين من أهل الزيغ ولكفران، وأما الذين في قلوبهم مرض فهم أهل النفاق الذين أحدثوا بعد ذلك لأن السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق وإنما حدث بالمدينة، ففي الآية إخبار بالغيب وقد وقع مطابقا فكان معجزا. واللامات في الأمور الأربعة للغاية عند الأشاعرة، والمعتزلة يسمونها لام العاقبة وقد مر في مواضع. وقوله: {ماذا أراد الله بهذا مثلا} إلى قوله: {من يشاء} قد مر في (البقرة).
وجعل مثل هذا العدد مثلا لغرابته حيث لم يقل عشرين وسواه والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب مع أنهم منكرون له من أصله. والكاف في {كذلك} منصوب المحل أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل ويهدي. قوله: {وما يعلم جنود ربك} إشارة إلى أن ما عليه عدد الخزنة لا يعلم حكمته ولا حكمة ما عليه كل جند من العدد إلى حين الأبد إلا الله سبحانه كما يقوله أهل الحق وقد مر.
وقيل: إن القوم قد استقلوا ذلك العدد فقال تعالى في جوابهم: هبوا أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد من الأعوان والجنود ما لا يحصيهم إلا الله {وما يعلم جنود ربك} لفرظ كثرتها {إلا هو} فلا يعسر عليه تتميم الخزنة عشرين وأزيد ولكن له في هذا العدد حكمة اختص هو بمعرفتها. قوله: {وما هي إلا ذكرى} متصل بوصف سقر. وقوله: {وما جعلنا أصحاب النار} إلى هاهنا اعتراض أي وما سقر وصفتها إلا موعظة للناس. ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات وهي ذكرى لجميع العالمين وإن لم ينتفع بها إلا أهل الإيمان وقوله: {كلا} قيل: إنكار لأن يكون للكفار ذكرى لأنهم لا يتذكرون أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا، أو ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقأومة خزنة النار، أو ردع لهم عن الإستهزاء بالعدة المخصوصة. وقد مر أنه يجوز أن يكون بمعنى حقا تأكيدا للقسم بعده. قال الفراء: دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل. روى بعضهم أن ابن عباس كان يعيب قراءة الثلاثي ويقول: إنما يدبر ظهر البعير. وفي صحة الرواية نظر لأن القراءات السبع كلها متواترة. قال الواحدي: والقراءتان عند أهل اللغة سواء ومنه أمس الدابر. وعلى هذا يكون دبور الليل وإدباره وإسفار الصبح أي إضاءته كشيء واحد. قال أبو عبيدة وابن قتيبة: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. ثم قال: {إنها} أي إن سقر التي جرى ذكرها {لإحدى} البلايا أو الدواهي {الكبر} جمع الكبرى. قال جار الله: جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت (فعلة) على (فعل) جمعت (فعلى) عليه. ونظير ذلك (السوافي) في جمع (السافياء) وهو التراب الذي يسفيه الريح. (والقواصع) في جمع (القاصعاء) كأنها فاعلة. وقال المفسرون: المراد من الكبر دركات جهنم وهي سبع: جهنم ولظى والحطمة وسعير وسقر والجحيم والهأوية. فعلى هذا معنى كون سقر إحداهن ظاهر. وقال أهل المعاني:
أراد أنها من بين الدواهي واحدة في العظم لا نظير لها {ونذيرا} تمييز من إحدى أي إنها لإحدى الدواهي إنذارا كما تقول: هي إحدى النساء عفافا وقيل {نذيرا} حال ومن غريب التفسير أن {نذيرا} متصل بأول السورة أي قم فأنذر نذيرا. ثم قال: {لمن شاء} السبق أو هو خبر وما بعده وهو{أن يتقدم أو يتأخر} مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي أنه مطلق لمن شاء السعي إلى الخير أو التخلف عنه.
(أو) للتهديد كقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29] ويجوز أن يكون {لمن شاء} بدلا من قوله: {للبشر} أي إنها منذرة للذين إن شاؤا تقدموا ففازوا وإن شاؤا تأخروا فهلكو. واستدلال المعتزلة على أن العبد مختار ظاهر، والأشاعرة يحملونه على التهديد أو على أن فاعل شاء هو الله سبحانه أي لمن شاء الله منه التقدم أو التأخر. سلمنا أن الفاعل ضمير عائد إلى من لكن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله لقوله: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله}.
ثم أكد المعنى المتقدم بقوله: {كل نفس بما كسب رهينة} أي ليس لامرئ إلا جزاء عمله كما مر نظيره في (الطور) قال النحويون: التاء في رهينة ليست للتأنيث لأن (فعيلا) بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم. وأقول أيضا: يحتمل أن تكون التاء للمبالغة {إلا أصحاب اليمين} فإنهم فكوا رقابهم عن الرهب بسبب أعمالهم الحسن كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. قال الكلبي: هم الذين كانوا على يمين آدم. وقال ابن عباس: هم الملائكة. وعن علي عليه السلام وابن عمر: هم الأطفال. قال الفراء: هذا القول أشبه بالصواب لأن الولدان لم يكتسبوا إثما يرتهنون به، ولأنه تعالى ذكر فيهم أنهم يتساءلون عن حال المجرمين وهذا إنما يليق بالولدان الذين لايعرفون موجب دخول النار والأولون حملوا السؤال على التوبيخ والتخجيل. قال في الكشاف: معنى التساؤل عنهم أنهم يسأل بعضهم بعضا عن حالهم. أو يتساءلون غيرهم عنهم كقولك (دعوته أنا وتداعيناه نحن). ثم زعم أن الوجه في قوله: {ما سلككم} على الخطاب مع أن سياق الكلام يقتضي الغيبة هو أنه حكاية قول المسؤلين لأن المسؤلين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون قلنا لهم ما سلككم {في سقر} وقال غيره: المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم، فلما رأوهم قالوا لهم ما سلككم؟ وأقول: ولو فرض التكلم مع المجرمين زال الإشكال أي يتساءلون عن حال المجرمين أي عن حال أنفسهم وليس فيه إلا وضع المظهر مكان الضمير. وهذا التكرار مما جاء في القرآن وغيره من فصيح الكلام شائعا ذائعا كقوله: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا} [الأعراف: 162] (أن يسألوا الحق يعطي الحق سائله). وإذا جاز ذلك مع التصريح بهما فكيف لم يجز وأحدهما محذوف؟ وهذا من غرائب نظم القرآن وفصاحته غير بعيد، والمعنى ما أدخلكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن ذلك لأمور أربعة: أحدها ترك الصلاة، والثاني ترك إطعام المسكين. قال العلماء: يجب أن يحمل هذان على الصلاة والصدقة الواجبتين وإلا لم يجز العذاب على تركهما.
الثالث الشروع في الأباطيل مع أهلها كإيذاء أهل الحق وكل ما لا يعني المسلم. الرابع التكذيب بالبعث والجزاء إلى حين عيان الموت وأمارات ظهور نتائج أعمال المكلف عليه، وقد يستدل بالآية على أن الكفار معذبون بفروع الشرائع كما يعذبون بأصولهما كالتكذيب بيوم الدين. وإنما أخر لأنه أعظم الذنوب أي إنهم بعد ذلك كله يكذبون بهذا الأصل كقوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] ويجوز أن يكون سبب التأخير أنه آخر الأصول فأولها المبدأ وآخرها المعاد. وأيضا أراد أن يرتب عليه قوله: {حتى أتانا اليقين} وهو آخر حالات المكلف فلو قدم لم يحسن معنى ولا لفظا لوقوع الفصل بين المعطوفات. قال في الكشاف: يحتمل أن كل واحد منهم دخل النار لمجموع هذه الأربع، أو دخلها بعضهم ببعضها والباقون بسائرها أو بكلها. قلت: إنهم جميعا مستوون في الدركة والظاهر أنهم دخلوها بمجموع الأمور، ثم بين غاية خسرانهم بقوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وفيه دليل على أن غيرهم تنفعهم الشفاعة وذلك لغير الفساق عند المعتزلة، وفائدة الشفاعة زيادة درجاتهم أو العفو عن صغائرهم، ثم وبخهم بقوله: {فمالهم عن التذكرة} أي عن القرآن الذي هو سبب الموعظة {معرضين} حال نحو مالك قائما {كأنهم حمر مستنفرة} من قرأ بكسر الفاء فمعناه الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها، وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة ونداء عليهم بالبلادة والغبأوة وعدم التأثر من مواعظ القرآن بل صار ما هو سبب لاطمئنان القلوب موجبا لنفرتهم، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ولاسيما إذا رابها ريب ولهذا وصف الحمر بقوله: {فرت من قسورة} وهى اسم جمع للرماة أو اسم جنس للأسد وهو القهر والغلبة، وقال ابن عباس: هي ركز الناس وأصواتهم. وعن عكرمة: ظلمة الليل. ومن قرأ بفتح الفاء فهي المحمولة على النفار. ورجح بعضهم قراءة الكسر بناء على أن الفرار يناسب النفار. ذكر المفسرون أنهم قالوا لرسول الله: لا نتبعك حتى تأتي لكل واحد منا بكتب من السماء بصحف عنوانها من رب العالمين. إلى فلان ابن فلان نؤمر فيها باتباعك. وروى بعضهم أنهم قالوا: إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة وأمنة من النار فأنكر الله تعالى فقال: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتي صحفا منتشرة} أي قراطيس منتشرة تقرأ كسائر الصحف، أو منتشرة على أيدي الملائكة أنزلت ساعة كتبت قبل أن تطوى. وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أن بني إسرائيل كان الرجل منهم يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. فعلى هذا المراد بالصحف الكتابات الظاهرة المكشوفة. ثم زجرهم عن اقتراح الآيات فقال: {كلا بل لا يخافون الآخرة} فلذلك أعرضوا عن التذكرة. ثم وصف القرآن بأنه موعظة بليغة وتذكر شاف {فمن شاء ذكره} وتذكير الضمير هاهنا وفي إنه بتأيول الذكر أوالقرآن. ثم بين السبب الأصلي في عدم التذكرة قائلا {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} واستدلال الأشعري به ظاهر، والمعتزلة حملوه على مشيئة القسر والإلجاء. ثم ختم السورة بذكر ما ينبئ عن كمال الهيبة وهو صفة القهر الذي بسببه يجب أن يتقي، وصفه اللطف الذي به يجب أن يرجى، والله الموفق للصواب وإليه المصير والمآب. اهـ.